تحصين القطاع المصرفي في مواجهة المتطلبات الدولية

تحصين القطاع المصرفي في مواجهة المتطلبات الدولية

من الضروري أن يبادر المجلس النيابي، ومعه الحكومة، الى إعطاء الأولوية لإقرار القوانين التي لها علاقة بحماية القطاع المصرفي، لأنّ المؤشرات في الولايات المتحدة تؤكد انّ الجهات الرقابية باتت اكثر تشدداً مع المصارف في الداخل والخارج، خصوصاً بعد أزمة العام 2008، والتي لم تتنهِ فصولها بعد.

يُدرك مَن يراقب الوضع المالي في الولايات المتحدة الاميركية، والإجراءات التي تتخذها الجهات الرقابية المخوّلة متابعة أداء المصارف في الداخل الاميركي، انّ السياسة العامة تغيرت منذ أزمة العام 2008، ولم يعد في مقدور ايّ مؤسسة مالية أن تنعم بروح التسامح التي كانت سائدة قبل الأزمة.

وقد حلّت مكانها صرامة استثنائية في التعاطي مع هذا القطاع، بعدما أدركت السلطات الاميركية انّ التساهّل يمكن أن يساهم في تفاقم أزمات لم يعد الاقتصاد الاميركي قادراً على تحمّل نتائجها.

ومن خلال المؤشرات، يمكن استشفاف تصميم أميركي على تطبيق الإجراءات التي ترى الجهات الرقابية الاميركية انها ضرورية لحماية الاقتصاد الاميركي بشكل عام. ولعلّ النموذج الأخير الذي قدمه «الاحتياطي الفدرالي» من خلال التعامل مع اختبارات الضغط، يؤشر بوضوح الى طوي صفحة غضّ النظر، وممارسة سياسة التشدّد. ومن البديهي، انّ مَن لا يتساهل مع مصارفه، لن يكون «رحوماً» مع المصارف الأجنبية.

هذا، وآخر ضحايا التشدّد الرقابي، كان مصرف «سيتي غروب» الاميركي، الذي رسب في اختبار الضغط الذي يشرف عليه الإحتياطي الفدرالي، الامر الذي تسبّب بصدمة كبيرة للمصرف الذي يحتلّ المرتبة الخامسة من حيث الحجم على لائحة المصارف الاميركية.

وكانت تأمل إدارة هذا المصرف أن تجتاز الاختبار هذه المرة، بعدما سبق وفشلت في المرة الاولى قبل ثلاث سنوات، واتخذت إجراءات منذ ذلك الوقت، اعتقدت انها كافية للخروج من النفق.

لكنّ الرقابة الاميركية لم تقتنع، وأعلنت فشل المصرف في الاختبار، على رغم علمها المسبق بالمخاطر التي سيتعرّض لها المصرف نتيجة هذا القرار. وهذا يعني، انّ مبدأ التساهل حمايةً لبعض المصارف لم يعد قائماً اليوم.

في كلّ الاحوال، لم تكتفِ الرقابة الاميركية بالتشدّد مع المصارف الاميركية، بل اتبعت الأسلوب نفسه مع المصارف الأجنبية العالمية الموجودة على الأراضي الاميركية. ولم تسلم من إجراءاتها الصارمة مصارف عالمية عاملة في أميركا، ومنها HSBC البريطاني، Santander الاسباني، وla Royal Bank of Scotland الذي يعمل في الولايات المتحدة بإسم Citizens Bank.

كذلك عمدت السلطات الرقابية الاميركية الى رفع عدد المصارف التي تخضع للمراجعة للتأكد من سلامة وضعها الى 30 مصرفاً. والعنوان الرئيسي للرقابة يستند الى مبدأ انه ليس في إمكان أيّ مصرف أن يوزع الأرباح على المساهمين، ويستثمر في الأسواق المالية إذا كان رأسماله غير كاف وفق المعايير التي وضعها الفدرالي الاميركي.

الى ذلك، وفي إطار السياسة المتشددة نفسها، يعمل الاتحاد الاوروبي حالياً على سنّ قوانين جديدة لوضع سقف موحّد للعمل المصرفي الاوروبي، تتماشى مع القوانين الاميركية لمكافحة تبييض الاموال بتفرعاته كلها المتعلقة بالفساد والمخدرات والإرهاب.

وتعمل لجنة متخصصة مكوّنة من خبراء مصرفيين وماليين واقتصاديين وحقوقيين على بلورة هذه القوانين في هذه المرحلة لتعتمدها لاحقاً دول الاتحاد الاوروبي. وهذه الخطوة تأتي تماشياً مع الضغوطات الاميركية، بهدف سدّ الثغرات القائمة في النظام المصرفي الاوروبي، من وجهة النظر الاميركية.

إنطلاقاً من هذا المناخ، القطاع المصرفي في لبنان يحتاج الى التأقلم مع السياسة الاميركية الجديدة. واذا كانت اوروبا انصاعت الى هذه السياسة لحماية مصارفها، فمن باب الأولى أن يبادر القطاع المصرفي في لبنان الى اتخاذ الاجراءات التي تحميه في المستقبل.

وهذا ما بادر اليه بطبيعة الحال مصرف لبنان، منذ فترة، من خلال ثلاثة خطوط:

الخط الاول، يتعلق باقتراح قوانين مطلوبة لحماية القطاع من ايّ اجراءات أميركية.

الخط الثاني، يرتبط بتشجيع المصارف على المزيد من الخطوات التطمينيّة.

الخط الثالث، يرتكز على تجويد الرقابة، واتباع اختبارات الضغط وفق المعايير المعتمدة عالمياً.

في المجال الاول، إصطدم البنك المركزي بالحسابات السياسية، التي عرقلت مهمة التشريع السلس والسريع للقوانين الحمائية المطلوبة. ولا يزال اقتراح قانون التصريح عن نقل الاموال براً، هو النموذج الواضح على هذه المعوقات. وليس مؤكداً بعد، إذا ما كانت محاولات تذليل هذه العقبات ستنجح، أم أنها ستنتهي الى فشل، قد يؤثر في اسلوب تعاطي الاميركيين مع المؤسسات المالية اللبنانية.

في المجال الثاني، تجاوبت المصارف بسرعة مع توصيات المركزي، وهي تحاول تنفيذ التحسينات المطلوبة، ولو انها اصطدمت بدورها بالوضع الإقتصادي العام، وبالوضع الإقليمي المشتعل، وهي بالتالي مضطرة الى تأجيل بعض الخطوات، ومنها ما يتعلق، على سبيل المثال، بتسريع تطبيق مندرجات «بازل 3»، قبل الموعد المحدّد.

في المجال الثالث، شهدت اختبارات الضغط تحسيناً وتكثيفاً بشكل مُرْضٍ. وقد اظهرت هذه الاختبارات قدرة المصارف على استيعاب الأزمة الإقليمية في الدول التي تنتشر فيها المصارف اللبنانية. كذلك أظهر اختبار الضغط الذي أُجري في أعقاب الأزمة القبرصية قدرة القطاع المصرفي اللبناني على اجتياز تداعيات هذه الأزمة.

من خلال هذا العرض، يتبيّن انّ النقطة الاساسية العالقة في موضوع تحصين القطاع المصرفي محصورة حالياً، بالقوانين التي تحتاج الى ليونة سياسية. وهذه هي المهمة المطلوبة من الحكومة الجديدة، علّها تنجح حيث فشل الآخرون.

(أنطوان فرح - الجمهورية)

  • » Home
  • » News
  • » تحصين القطاع المصرفي في مواجهة المتطلبات الدولية

SUBSCRIBE TO NEWSLETTERS

Please enter your e-mail address below to subscribe to our newsletter.

Latest Products

more...
Shop